19.7.12

هوية الفاعل

حينما وقفت الضحيّة على قدميها مترنّحة أخذتنا الحماسة، فقد كنّا فقدنا الأمل واعتقدنا أنّها على وشك أن تلفظ أنفاسها، لكنّها فجأة، ومن دون سابق إنذار، استندت ووقفت. حينذاك لم ينبعث الأمل وحده فينا؛ بل أيضاً انبعثت إلى الحياة حرارة نقاشاتنا القديمة التي تسلل إليها الملل، وخبت حرارتها، وكادت تنطفئ، حول هوية المجرم وحول إمكانية إنقاذ الضحية. وقفت الضحية أمامنا مترنحة، وما لبثت (مما وضعنا في دهشة بالغة) أن رفعت يدها، وهي تقبض على زناد مسدس معلنةً أنها ستنتقم لنفسها بنفسها: ستقتل المجرم بيدها. في هذه اللحظة نشب الخلاف بيننا، أعني نحن الذين كنّا دوماً معنيين (أو نزعم أننا معنيون) بملابسات القضية، وبالتحقيق فيها، وبفهم أسبابها ومبرراتها؛ بل ونزعم أيضاً أننا معنيون بإنقاذ الضحية، مع أنّ الشك كثيراً ما كان ينتابنا في أنّها تحتضر، وليس ثمّة أمل في إحيائها. نشب الخلاف بيننا على هوية الفاعل. كان بعضنا يرى أنّه من الصعب الإشارة إلى فاعل واحد، ذاك أنّ جسد الضحية كان تلقى عدداً هائلاً من الطلقات، بل، وحينما كنا ندقق النظر كنا نعثر فيه على صدأ منتشر في آثار جروح قديمة أحدثتها طعنات سيوف، ما يدفع إلى تصور أن هذا الجسد لا بد قد أمسى مثل خلية النحل المليئة لا بالعسل بل بالرصاص وصدأ السيوف، حتى إن المرء ليتعجب كيف أنّ هذه الضحية ظلت قادرة على الحياة، بيد أنّ الواقع وضع نتائج تلك الجرائم في تناقض مع استدلالنا المنطقي، فبدل الموت اكتشفنا أن جسد الضحية استطاع أن يهضم وابل الرصاص والصدأ، وأن يحوله إلى أحد مكونات الحياة: حياته. أمّا البعض الآخر، فقد رأى أنّ هوية المجرم واضحة، ولا مجال للبس فيها: أنه ذاك الذي أطلق الرصاصة الأخيرة، وقد استندوا في تأكيدهم إلى حيثيات كثيرة، منها أنّه – أي المجرم الأخير – أقدم على جريمته عن سابق إصرار وترصد، وأنّه أقدم على جريمته وسط النهار على مرأى ومسمع الجميع، وأنه كان قاصداً أن يصيب الضحية في الرأس، ففي حال عدم موتها، سيشلّ قدرتها على الحركة والتفكير، وأنّه، أيضاً... وأيضا...، وقد كانوا في الحقيقة على جانب كبير من الصواب، فالوقائع والقرائن كلها كانت تؤكد أقوالهم وفرضياتهم، لكن نقطة الخلاف بيننا لم تكن حول ما إذا كان ذاك المجرم مجرماً فعلاً أم لا...فقد كنا متفقين على جريمته وظروفها وزمانها ومكانها، لكنّ الخلاف الذي نشأ كان بخصوص مسألة أخرى: هل هو الآن، في اللحظة نفسها التي يحتدم فيها نقاشنا وخلافنا، الوحيد الذي يشكل خطراً على حياة الضحية. كنا نرى أنّ ثمة آخرين أشدّ خطورة منه، يقفون على بعد مسافات مختلفة من الضحية، بعضهم متوارٍ عن الأنظار، وبعضهم الآخر واضح للعيان، يصوبون نحو الضحية أسلحة فتاكة سترديها قتيلة لا محالة إن أصابتها، وكانوا هم لا يرون إلا المجرم الأخير، حتى إنهم كانوا يستخفون بأوهامنا وهلوساتنا حول وجود فاعلين آخرين؛ بل وظلوا يعدون المجرم الأخير الخطر الوحيد الماثل أمام الضحية، مع أنه للحقيقة بدا خائفاً ومترنحاً أيضاً وعلى وشك السقوط... حتى إن ضعفه استثار شجاعتهم، فاندفعوا بحماسة منقطعة النظير إلى الضحية ليساندوها وليشهروا أسلحتهم في محاولة جماعية للاستفراد به وسحقه مرة وإلى الأبد، ليقفوا بعد ذلك منتشين بلحظة نصر غامرة على جسده رافعين الأسلحة بيدوباليد الأخرى يلوحون بإشارات النصر تحت أضواء صاخبة على خشبة مسرح يغرق جمهوره الغفير الصامت في العتمة... ما بدا مثيراً للدهشة أنّ الجمهور راح يصفق بصخب مع أنّه كان يرى أنّ أياً من الأسلحة لم يكن موجهاً ضدّ ذاك المجرم، الأخير، ولا ضد أيٍّ من المجرمين الآخرين بحق الضحية، المتوارين عن الأنظار والظاهرين للعيان، بل كان موجهاً ضدّ الضحية نفسها... كان سلاحهم جميعاً، وفي مقدمهم سلاح الضحية ذاتها، مصوباً إلى نقطة قاتلة في جسد هذه الضحية: إلى القلب الذي كان ينبض بوهن. لقد صفق الجمهوربحرارة لأنّه عدّ هذا العرض سريالياً، وأن مخرجه من أؤلئك الفنانين الذين يصعب فهم أعمالهم، لكنّ ثمّة اعتقاداً يسود لدى الجميع بأنّ هذه الأعمال حتماً تنطوي على معنى عظيم حتى لو عجزوا عن فهمه... لقد خرجوا من المسرح من غير أن يخطر ببال أيّ منهم، أنّ العرض لم يكن مسرحياً، فقد كان يصعب على العقل السليم أن يتوقّع أن طلقات النار التي شرعوا يسمعون دويّها القادم من مكان ما إنّما هي طلقات نار حقيقية كانت الضحيّة تطلقها على نفسها.
كفى الزعبي - بلدنا

ليست هناك تعليقات: