9.12.13

في التأريخ و المؤرخين: نقولا زيادة

نقولا زيادة
"
يحشر الكثيرون من مؤرخينا أنفسهم في فترة معينة من التاريخ، ويصرّون على أنهم اختصاصيون في هذا الموضوع أو الفترة. هذا أمر صحيح، لكن أرى أن المؤرخ الحقيقي يجب أن يكون له اطلاع أساسي (ليس من الضروري أن يكون تخصصياً) عـلـى مجـرى التاريخ العام كي يستطيع أن يضع فترته في مكانها الصحيح.
تعلمت من خبرتي الطويلة والمتنوعة الاتجاهات، أن التاريخ لا يمكن أن يفهم إذا اقتصر المتخصص فيه عليه فقط. الأرض جزء من التاريخ، السهول بخصبها، والسهوب بتقلّبها، والصحارى بجفافها، يجب أن تدرك بكثير من العناية والدقة كي يفهم التاريخ. الأدب بجدّه وهزله، والشعر بالجزل منه، والضعيف جزء من التاريخ. لايزال البعض منا يحسب أن التاريخ معارك، فاصلة أو غير ذلك، لذلك ينظر إلى أحداث الزمان من خلالها، أحسب أن المؤرخ الصحيح، حتى الذي يؤرخ للشئون العسكرية أصلاً، يجب أن يتعرّف إلى جو المعركة الخارجي كي يفهم الأمر على علاّته.
تعلّمنا وعلّمنا، فيما يصر البعض على تسميته بالمنهجية التاريخية (وكم أسيء إلى هذه الكلمة)، اننا يجب أن نعنى بالوثائق، فالوثيقة هي أساس، لكنني أرجو الإخوان العاملين في حقل التاريخ أن ينظروا إلى الوثيقة نظرة دقيقة، إن ما دوّنه فراعنة مصر وملوك أرض الرافدين وأمراء بلاد الشام وأباطرة الرومان على جدر المعابد وعلى الصخور القائمة على الطرق التجارية وعلى الأعمدة التي زيّنت الميادين هو ما تم لهؤلاء من النصر. لم يذكر أيّ منهم أنه كُسر في معركة، أو أنه خسر في موقعة، لذلك يجب أن تؤخذ مثل هذه الوقائق بعين الاعتبار، وهذا الأمر لا يقتصر على مثل هذه المدوّنات، بل يشمل حتى كتب التاريخ، لنذكر أن بعض كتب التاريخ العربي القديمة، وهي مصادرنا، كتبت تحت تأثير بلاط السلاطين، لذلك يجب أن نكون حذرين في استعمالها والاعتماد عليها، فضلاً عن ذلك، فإن الأرقام التي ترد في الكثير منها فيها مبالغات ما أنزل الله بها من سلطان.


ولعل أشد الأمور خطراً على البحث التاريخي هو الالتصاق بمدرسة أو فلسفة معينة، ذات إيديولوجية محددة، عندها يصبح تفسيرنا للتاريخ (ألْوق، أعوج)، فيما إننا نحسب أننا دقيقون منصفون، وفي هذا غش للنفس، وبالتالي غش للتاريخ.
تجربتي في كتابة التاريخ أدت بي إلى أن أنظر إلى البحث أو الموضوع الذي أتناوله نظرة مستقلة فاحصة، وأن أحاول درسه من أصله لا من وسطه (معتمداً على ما كان غيري قد توصل إليه)، عندئذ - وبعد أن أفهم المكان والناس والزمان الذي يقع فيه موضوعي - أتقدم بتقصّي ما بيدي من وثائق ومصادر، وأود أن أذكّر زملائي المؤرخين، وخاصة المتقدمين منهم، أن يعنوا بعض العناية بالآثار - زيارة (إن أمكن) وقراءة وتفهّما على الأقل، وأن يوجّهوا طلابهم إلى اهتمام بها أكبر. فالآثار بالنسبة للزائر العادي معرفة ورؤية مباشرة وثقافة، أما بالنسبة للمؤرخ فهي مصدر مهم.
وإذا نحن توقفنا بعض الشيء عند نواحي التاريخ العربي الإسلامي، تبين لنا أن ظهور الإسلام والفتوح السريعة وقيام هذه الدولة الواسعة في مدة لا تزيد على القرن الواحد، وأنها ضمت تحت جناحيها مختلف المناطق ومتنوع الأعراق، والعديد من الحضارات، والكثير من العادات الاجتماعية، كما يتضح لنا مدى ما تمّ في محيطها، وبسبب ما قام داخلها من الخلافات، من تبدّلات وتغيّرات واتصالات - إذا تذكـّرنا هذا كله، بدا لنا أن الأساليب والطرق والوسائل والسبل التي يجب أن تتّبع في درسها، لابد أن تختلف عن بعض الأساليب التي اتبعت في دراسة حضارات أخرى سابقة ولاحقة، الغوص هنا أصعب ولكن النتائج مزجية.
وليسمح لي الزملاء والقرّاء أن أزجي هنا نصحاً - ولا أقول نصيحة - وهو ألا نقف من تراثنا موقف القداسة، وأن نصرّ أننا سبقنا غيرنا بقرون في القضية الفلانية والكشف الفلاني، هذا أمـر لا ينكره علينا سوى المكابر، يجب أن ننظر إلى أنفسنا أننا قمنا بدورنا، وجاء بعدنا مَن سار على الدرب فوصل إلى محطات أخرى، إن وقوفنا عند التراث، وتقديسنا إياه قد يؤدي بنا إلى (مكانك عُدّ) - كما يقول الجند والكشافة.
اكتشفت أن في التطوّر التاريخي شيئاً أسمّيه (الجيولوجية الاجتماعية)، أي أن الشعب الذي وجد في مكان وكانت له مآت وإنجازات (مهما كان نوعها) لا تذهب مع الريح لمجرد أن يهزم هذا الشعب ويستولي شعب آخر على بلاده، إن الكثير من الإنجازات يظل في المجتمع الجديد وينتقل إليه اجتماعياً كما تنتقل شعيرات النبات من طبقة من الأرض إلى أخرى.
ليس ثمة شيء يجُبّ ما قبله، وإن كان ينتصر عليه بحد السيف أو المدفع أو سواهما، الأساطير القديمة خير مثل على ذلك، لكن هناك أموراً أخرى تنتقل بالطريقة نفسها قبل أن يأتي مَن يهتم بتدوينها - كالقوانين والأخبار.
نحن أمام مشكلات كثيرة كبيرة معقّدة صعبة بالنسبة لفهم تاريخنا، فلنعن بالصغير والكبير من الأمور، كي نكتب لأنفسنا تاريخاً حرياً بالقراءة - سواء كنا نحن القرّاء أم كانوا سوانا ."

نقولا زيادة

ليست هناك تعليقات: